فاتح القدس
صلاح الدين الأيوبي
فاتح
القدس قل للملوك تنحو عن عروشكم فقد أتى أخذ الدنيا ومعطيها ، هذا الذي أخذ الدنيا
بسيف الظفر ثم جاد بها بيد الكرم هذا الذي روع اوروبا مرتين مره حين قهر جيوشها
بسيفه ومره حين شدها نفوسها بنبله هذا الذي كان النموذج الأتم للقائد المنصور وكان
المثل الاعلى للحاكم المسلم.
وكان الصورة الكاملة للفارس النبيل والمسلم
الصادق و كان المحرر الاعظم حضر هذه البلاد الشام وفلسطين من استعمار الاوروبيين
بعد ما استمر نحو من مئة سنه هذا الذي انتزع من اصدقائه و من اعداءه اعظم الاعجاب
واصدق الحب وترك في تواريخ الشرق والغرب اكبر الامجاد واعطر السجايا .
وكان اسمه من اضخم الاسماء التي رنت
في سمع الزمان ودوت في ارجاء التاريخ وخلدت على وجه الدهر انه صلاح الدين الايوبي .
سقطت على اقدامه الدول وقفت على
اعتابه الملوك ودانت له الرقاب وانقادت اليه الخزائن ومات ولم يخلف الا 47 درهما و
دينارا ذهبيا واحده ولم يترك دارا ولا عقارا فجهز واخرجت جنازته كما يقسم القاضي
بن شداد بالدين لقد قرانا سيرت صلاح الدين مرارا قرأنا في سيرته وحروبه الاف صفحات فكان من اعجب ما
وجدنا ان ينبغ هذا الرجل عظيم جدا في ذلك الزمان الفاسد جدا وان يتغلب على العدو القوي
جدا كان المسلمون قبل نور الدين وصلاح الدين على شر حال من الانقسام علي حال لا
يمكن ان يصل الى توهمها وهم واحد من مهما بالغ في تصور الشر كان في هذه البقعة الضيقة
من الوطن الاسلامي من الدول بمقدار ما كان فيها من البلدان ففي كل بلده دوله مسلمه
، في دمشق دوله وفي شيزر دوله وفي حماه
دوله وفي بعلبك دوله كلها دول ، كان في كل دولة ملك أو أمير لهم أسماء عجيبة وسير
أعجب وكان أقصى مدى لصلاح الدين ونور الدين من قبله أن يكون كواحد من هؤلاء
الأمراء ، وإن هو نبغه فهو أكبرهم ، فكيف ظهر هذان البطلان الخالدان في مثل ذلك
الزمان .
فكانت قد داهمت الشام قبل صلاح
الدين حملتان صليبيتان جاءتا كموج البحر لهما أول وليس لهما آخر ساقهما الطامعون
في هذه البلاد باسم الغيرة على المسيحية ، وإنقاذ أيدي المسيح من الوحوش الضواري
ذواتي الأنياب والمخالب المسلمين .
وكانت لهم دول لا دولة واحدة ،
فلهم في القدس مملكة وفي أنطاكيا إموالصلاح،رابلس وفي الرها حكومة ، دول وإمارات
طالت جزورها وبسقت فروعها وعششت بومها وباضت وفرخت وحسب اهلها وحسب المسلمون أنها امتلكت
الشام إلى الأبد ، فكيف استطاع صلاح الدين أن يصنع من ضعف المسلمين قوة ، ومن انقسامهم
وحدة حتى واجه بهم أوروبا كلها ، وأزال ما امكن من بقايا الحملتين الباقيتين ، ورد
الحملة الثالثة الهائلة التي رمته بها أوروبا ، أتعلمون كيف ، إنه ما رد العدو بعدد
المسلمين وعدتهم ولكن بالسلاح الوحيد الذي لا ينفع في هذا المقام غيره ، سلاح
الإيمان غير ما كان بنفسه من الفساد ، فغير الله على يديه ما كان في قومه من الضعف
والتخاذل ، كان يلهو ويعطي نفسه هواها فتاب وأناب ، لم يفسد بالإمارة كما يفسد بها
كل صالح ، بل صلح بها بعد أن كان هو الفاسد ، فرجع إلى الله فأرجع الله إليه النصر
.
استمد أخلاقة وسيرته من إرث محمد
( صل الله عليه وسلم ) في التقوى والصلاح ، فأعطاه الله إرث محمد في الغلبة والظفر
.
تمسك بالدين وأقام دولته على أساس
من الإسلام متين، فأستطاع بهذه الدولة المتفرقة الجاهلة الهزيلة، وهؤلاء الأمراء
المنكرين ذوي الأسماء العجيبة أن يحارب أوروبا كلها، أوروبا الحاقدة الحانقة
المتعصبة التي اجتمع ملوكها جميعا على حرب فلسطين.
صحح عقيدته أولاً ، وسأل القطبة النيسابوري فألف له عقيدة عكف عليها وصار يلقنها أبنائه ، وقرب أهل العلم والدين ، فكان مستشاريه وخاصته أعلام العصر – القاضي الفاضل والقاضي بن الذكي والقاضي بن شداد وكان كل ما انزل بلدا دعا علمائه ومن كان لا يأتي منهم أبواب السلاطين اخذ أولاده وذهب اليه كم ذهب الى الحافظ الاصبهاني في الإسكندرية وكان يحرص على صلاه الجماعة ولا يترك الصلاة قط الا في الايام الثلاثة التي غاب فيها قبل موته وكان يصوم حتى في أيام المعارك و كان مكثراً سماع القران يبكي من خشيه الله عند سماعة ويواظب على مجالس العلم والحديث حتى في ليالي القتال لم يترك صلاه الليل الا نادرا يلجا الى الله كلما دهمته الشدائد وضاقت عليه المسالك فيجد الفرج والنجاة لا نها إن سدت ابواب الارض احيانا فان باب السماء لا يسد ابدا كان يقيم الحق لا يبالي ولا يحابي احداً ، اخذ مره ابن اخيه تقى الدين واعز الناس عليه بشكوى عامي من دمشق اسمه بن زهير ونكل به ، اما كرمه وهوان الدنيا عليه فامر لا تتسع له الاحاديث ، وكان اعتماده على الله ما استكثر قط عدوا ولا خافه ولا فقد اعصابه قط في هزيمه ولا ظفر ، وكان متواضعا يطأ الناس طراحته عند ازدحامهم للشكوى ويريدون عليه و يضايقونه في اوقات راحته ، ما غضب لنفسه قط لكنه اذا غضب فغضبه لله لم يدر احد ان يرفع النظر الى وجهه وصار كالأسد الكاسر لا يقف امامه شيء وكان محتسبا صابرا ، ولما جاءه نعى ولده اسماعيل قرء الكتاب ودمعت عيناه ولم يقل شيئا ولم يعرف الناس الا بعد ،
ولما جاءه نعى ابن اخيه تقى الدين ابعد الناس عن خيمته وجعل يبكي بكاء شديدا والقضاة معه يبكون لبكائه ولا يعرفون السبب فقال لهم والعبرة تخنقه مات تقي الدين ، ثم رجع الى نفسه فاستغفر الله وغسل عينيه بماء الورد وكتم الخبر كي لا يبلغ العدو فيقوى أو الجيش فيضعف ، وكان حسن العشرة طيب الأخلاق حافظاً للأخبار والنوادر وكان معتلاً بدمامل ما تفارق نصفه الأدنى وكان مع ذلك يركب الخيل ويصبر على الألم ويخوض المعارك وأي معارك إننا لا نكاد نعرف في كل ما جاء في كتب التاريخ جيش خاض من المعارك أكثر مما خاضه جيش صلاح الدين الأيوبي ، لقد ضرب كل رقم قياسي إلى ذلك العصر خاض 74 معركة في مدة ولايته على الشام في أقل من 19 سنه ، حارب هؤلاء الأمراء أمراء الموصل وأمراء حلب وحماه وحارب الحشاشين القتالين ومن اشتهارهم بالقتل اشتق اسمه اساسان في فرنسيه للقاتل ولا تقولوا كيف حارب أمراء الاسلام فان الذي يريد ان يبني له دارا لابد ان يزيل الانقاض والخرائب فهو يهدم بيته البال ليبني بيتا جديدا ، وكذلك فعل صلاح الدين ثم ابتدأت سلسله المعارك الهائلة حروب ما عرفت مثلها ارض فلسطين و ديار الشام الى ذلك العصر حروب لا تقاس بها القادسية ولا اليرموك حروب جرب فيها كل سلاح السيف والرمح والدبابات والمجانيق والشجاعة والذكاء والكيد والاختراع والمروءة والشهامة وكان صلاح الدين ظافراً فيها جميعا ، حروب استعملت فيها المنجنيقات التي تقذف الصخور الهائلة كالمدافع الثقيلة اليوم والسهام المتلاحقة كالرشاشات تمهد للمعركة بآلاف القذائف وبالضرب الذي يستمر يومين و ثلاثة واستعملت الكباش وهي عربات ضخمه مصفحة لها رأس ثقيل ينقب الاسوار والدبابات نعم الدبابات وهذا هو اسمها القديم و كانوا يفتنون فيها حتى اخترع الإفرنج في حصار عكة دبابه ثقيلة صنع منها ثلاثا في كل منها اربع طبقات فجاءت اعلى من الصور و حصنوها بالحديد والجلود المسقاة بمواد يعرفونها تمنع الحريق ولم تؤثر فيها قذائف المسلمين ولا النار اليونانية التي كانوا يلقونها وتذعر المسلمون وخافوا فقال لهم صانع من دمشق اسمهم شيخ النحاسين انا اصنع لكم نارا تحرقها فستصغرونه فلما الح أجابوا فستمهل يومين ثم صنع اشياء خلقها ووضعها في قدور ثلاثة والقاها فانفجرت كالقنابل بمثل دوي الرعد واحرقت الدبابات وكبر المسلمون وكان يوما عظيما ولما عرضوا عليه الجوائز اباها وقال والله ما عملته الا لله ،
وجاء العدو مره بكبش مصفح عظيم احرقه
المسلمون ثم خافوا ان ينسحب فرفعوه وهو يشتعل بالآلات حتى قارب السور فصبو عليه
خراطيم الماء واخذوه والفرنجة ينظرون
مشدوهين فوجدوا فيه 425 رطلاً من الحديد ،
كما استعملوا الحيلة فلما ضاقت الميرة على عكة أثناء الحصار وفشلت كل محاولة
لإمدادها بالأغذية تطوع جماعة من المسلمين فحلقوا لحاهم ولبسوا لباس الإفرنج
وحملوا معهم الخنازير وتكلموا الفرنسية وركبوا بطشتاً أي زورقاً ضخما دخلوا بحيله
من اعجب حيل الحروب ومن هذه الحيل ان صلاح الدين كان يعرف القاعدة العسكرية وهي ان الجيش ليس المرابط في الجبهة ولكن الشعب كله جيش لذلك كان يستغل كل
قواه للحرب حتى اللصوصية جمع اللصوص ليتخلص من شرهم لكنه لم يحبسهم بل استخدمهم في صنعتهم فكانوا
يسرقون له الامراء والجنود من فرشهم بطرق عجيبة رواه بن شداد وطالما انتزع امراءه
من تحت لحفهم والخناجر على اعناقهم والمخدر في اجسامهم فلم يروا انفسهم الا امام
صلاح الدين ، ويوم حطين اتبع صلاح تكتيكاً حربياً عجيباً حين اجبر الإفرنج على ملاقاته في المكان
الذي تخيره هو وتحصن فيه ويوم نجح في استرداد القدس اتي من النبل والكرم والمروءة
ما لم يفرغ بعده مؤرخ الإفرنج من الكلام
فيه وتقديره ، استرد القدس بعدما ملكها
الافرنج إحدى وتسعين سنه أفنشك نحن في استردادها اليوم وقد ملكها اليهود سنوات
استردها وحولها يحامي ويدافع عنها دول اوروبا كلها وملوكها أفلا نستردها اليوم
وحولها حفنه من شزاز الأفاق ، لقد كانت
للصليبيين دول استمرت اكثر من مئة سنه في اين تلك الدول ، إن الامه التي اخرجت
صلاح الدين وهي أسوا من حالنا اليوم حالا واشد انقساما واكثر عيوبا لا تعجز بأذن الله ان تخرج اليوم
مثل صلاح الدين .
إذا عجزنا نحن عن أن نعود الى مثل
سيرتي صلاح الدين يكتب لنا مثل نصر حطين فسيخرج بأذن الله تعالى من اصلابنا من هم أنقى
منا واطهر فيستردون الارض و يطهرون العرض ويرفعون لله في كل ميدان رايه وانا لنرجو الله
حتى كأننا نرى بجميل الظن ما الله صانع .